الأحد، 26 أكتوبر 2008

العلم طريق البناء






















أول حقيقة يمكن أن ندركها عن العلم، بأنه العمل الدؤوب لإحداث المتغيرات الدائمة في الحياة، والقوة الكشفية لجميع القوانين والعلاقات الكائنة في الكون وإعطاء الحياة الاستخدام الأمثل للإنتاج الناتج عن هذا الكشف العلمي ومدى فاعلية هذا الإنتاج في تغيير الحياة الإنسانية وفق غايات يحددها الوجود الإنساني نفسه.
ويعتبر العلم السمة والقيمة المؤثرة في النفس الإنسانية ، وإعطائها المقدرة العامة لمواجهة جميع المؤثرات الخاطئة في الحياة ، ومواجهة جميع المفاهيم المحاكة بشكل لا يرضي تطور البناء الإنساني الحقيقي ، إنه القوة التي تمنح الإنسان الثقة في جميع الأعمال التي يقوم بها وفق المنهاج المتبع ، ويعطي الأمان التام في تقدير قيمة الواقع الإنساني العام ، وهو الأسلوب الكفيل بتوصيل الإنسان نحو غاياته التطورية ، وفهم الغاية الأساسية لاتجاه الحياة العلمية . فغاية العلم في وجوده القائم عبر الزمن تحقيق الإمكانيات الدائمة للانتصار على جميع المعوقات التي تقف في طريق تطور الحياة ، والبحث الدائم عن جميع الإشكالات والعوائق في الواقع ، وإحداث التغيرات الهائلة في البنية العامة للوجود للإنساني نفسه ، إنه القيمة المعبرة عن انتصار الإنسان على القوى الطبيعية ، واستغلال وجودها لصالح الحياة الإنسانية .
وغاية العلم في وجوده الذاتي توصيل الحياة إلى الاستقرار التام، وإلغاء كافة العوائق المعرقلة للوجود الإنساني في نمائه وتطوره المستقبلي ، وهو الصيغة عن التواجد الدائم للحياة واستمرارها، دون أن يؤدي ذلك إلى انتكاسات تعرقل المسيرة الإنسانية وتحد من نمائها أو تشوه القيمة الفعلية للوجود نفسه.
وبالعلم تصبح الحياة قوة قادرة واثقة ، ترتفع فوق جميع صيغ القهرية والجبرية ، وجميع المقولات الموضوعة لعرقلة النمو العلمي للوجود. ومن الناحية الثانية تبرز مقولة الغاية من استخدام العلم كعملية لا يمكن حصرها ولا ضبطها ، ولا نستطيع تنظيم مسيرها العام، لأنها ناتجة عن الأهواء الإنسانية بتنوعها الغريب وغير القابل للتحديد حصراً.
فالغاية من استخدام العلم كانت تمثل دوماً أبعاد مختلفة ومتناقضة في عطائها ومفرزاتها، فتارةً تستخدم من أجل الإنسان لتحقيق سيادته على الواقع ، ومعالجة قضاياه ولعوائق التي تقف في طريق نموّ ومصيره ، عندها تلعب الغاية العلمية دوراً إنمائياً متقدماً وتطوراً يساعد في تحسين وجود الحياة.
وأحياناً كانت الغاية العلمية تحقق إمكانيات فردية متميزة ، تبرز إلى الوجود من خلال تحقيق مكاسب شخصية ، نظراً للغايات المستخدمة في طرائق البحث والكشف العلمي على صعيد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى عرقلة الحياة وحرفها عن المضمون الأساسي القائمة من أجله ، حيث طورت أشكال مفزعة من الإنتاج العلمي المهدد لتطور الحياة الإنسانية، لأن الغاية الأكثر خطورة هي الاستخدام التدميري للإنتاج العلمي من أجل تحقيق السيطرة والسيادة وسلب الحياة حق الوجود المستقر. وهذه الغاية في بنيتها العامة من الضعف الغريب في النفس الإنسانية وضحالة القدرة التوجيهية للغاية العلمية بالشكل المؤدي إلى تعميم الحياة المبدعة للإنسانية والاستفادة من هذه الحياة وعطائها العام للوجود البشري.
كما آن الانهزامية والإدارة السيئة للعلاقات الاجتماعية وتوجيه العقل الإنساني نحو العصيان هو ما أدى إلى انحراف الغاية من استخدام العلم كسلاح تدميري موجه ضد من نخاف عقابهم، نظراً للأخطاء الجسام التي نرتكبها بحقهم ، وإذا كان الإدعاء بأن الوسائل التدميرية هذه هي للحفاظ على التوازن وإقامة علاقات التكافؤ بين البشر ، فهذا مرده إلى ضعف الوعي المدرك لعملية الحياة الإنسانية بالذات فجميع العلاقات المتكافئة يمكن الحفاظ عليها بدون توازن ، لأنها تلبي طموح ورغبات الجميع وتحقيق حياة يسودها الإبداع والانسجام المتكافئ ، وإن العطاء الناتج عن هذه الحياة نفسها هو القدرة القادرة للحفاظ على الحياة الإنسانية بشكلها الحقيقي.
وإذا كان الهدف من ذلك هو تحقيق التوازن العام بين القوى المتصارعة ، فإن التوازن يمكن تحقيقه في غايات أكبر وأعمق وأفضل من غايات القتل والتدمير ولإبادة ، فالغاية العلمية هي مقدرة لامحدودة في توجيه عملية العطاء نحو الأفضل. وإذا كانت الغاية من ذلك إرهاب الشعوب واستنزاف خيراتها واحتكار الإنتاج الإنساني لتحقيق غايات ضيقة وضعيفة المردودية ، فإن الإنسانية في نموها ستمتلك القدرة الكافية لإيجاد السبل لمنع الاستنزاف ، واستنزاف خيرات الآخرين ، إلا في الطريق الذي يوفر لهذه الشعوب العزة والكرامة والاستمتاع الأعظم بأفضلية حقها في استخدام واستغلال هذه الخيرات لتحقيق نمائها وتطورها الذاتي والمتكافئ ، فالإنسانية بكافة مراتبها العلمية والتقنية ستتوجه بالاتجاه الأنسب لتحقيق نموها المطرد البعيد عن التوترات والصراعات المعرقلة لعملية النمو وتحديث الحياة فيما يحقق السعادة للجميع.
ستعلم الشعوب وتتعلم جميع الأساليب وجميع الوسائل والسبل القادرة على النهوض بالمستوى العلمي العام، لتحقيق النماء الإنساني المتكامل والهادف إلى التقريب الأمثل بين جميع أبناء الإنسانية ، لتحقيق قفزة نوعية في تآلف الحياة الإنسانية.
فالحضارة هي مقياس صحة العلم والحضارة القائمة على نمو القوى الاجتماعية الفاعلة في الحياة والقادرة على إحداث التطور المنسجم مع الواقع الإنساني هو ما يؤدي بالضرورة إلى ترشيد العلم وفق الأبعاد الحقيقية للمستقبل ويعطي الإنتاج العلمي وجوداً إنمائياً مستمراً وفق الغايات الإنسانية الحقيقة .
فإذا كان الهدف من استخدام العلم تشويه الحياة والأخلاق الإنسانية وفق خطة معدة لتأمين السيادة ، والقدرة على تعزيز تواجد القائمين على استخدام الإنتاج العلمي فإن النتيجة ستطالهم حتماً، وسيدخلون دائرة الانحراف ولانزلاق في مواقع ستؤدي بالضرورة إلى إنهائهم، وستبقى الحياة مستمرة تقاوم جميع الصيغ المؤدية إلى تشويه مسيرتها العامة.
وإذا قامت الحضارة على تأمين الوجود الدائم للحياة في أفضل معانيها، والمتجهة نحو التوفير الأمثل للحاجة ، فإن العلم سيلعب دوراً قيادياً ومعمقاً أبحاثه واكتشافاته ، لأن الأساليب المتبعة لتحقيق هذه الغاية نابعة من إقدام إنساني عالي الفاعلية نحو تحقيق غاية العلم ويصبح العلم أداة طموح قائم على تأمين السلامة والكرامة الإنسانية،وسيعمل الإنسان بكل إمكانيات التفاني لتحقيق قفزة علمية صحيحة وسريعة تؤدي إلى تغيير بنية الحضارة القائمة بشكل تام ، وستسقط جميع الأوهام البشرية القائلة بأن الإنسانية تسعى لتدمير نفسها .
فالسرعة التطورية للعلم يحددها النقل الأمين لمعطياته وهي من الدقة والتوازن القائم على الرعاية والمحافظة التامة للبنية للإنسانية بجميع أشالها وصورها في الحياة وجميع الشعوب الداخلة في التركيبة الإنسانية العامة .
وإن مجرد عدم التوازن في إقامة الحضارة الإنسانية سيخلق بالضرورة فرقاً حضارياً بين الشعوب له جانب كبير من الخطورة ، قد يؤدي في المستقبل إلى توسع دائرة الخلاف والتوتر بشكل يعيق تطور الحياة العامة ويعرض وجودها للخطر ، وإن تناسي هذه الظاهرة العالمية لن يحدث النقلة النوعية السليمة للحضارة الإنسانية، وستبقى بؤر التوتر قائمة ومهددة بالانفجار.
فالإنسان هو القائم والقادر على تحقيق النمو العلمي المطرد وتوسيع إمكانياته وتخصصاته ، وتعميق أكثرها فاعلية فيما يخص قضايا الإنسان ووجوده بالذات، والعلم هو الإمكانية الدائمة لتحقيق هذه القضايا وتعميق وجود الإنسان وإعطائه القوة والطاقة المستمرة من أجل حياته النوعية وفق الأصول والغايات المتواجدة من أجلها، والوصول إلى السيادة مع هذا الوجود معتمداً على الاستخدام الأمثل لمبتكرات العلم من أجل الإنسان بالذات، فتوجيه العلم وفق صيانة الحياة الإنسانية من جميع المخاطر والأخطار التي تهددها، سواءً أكانت داخلية ناجمة عن تأمين صحة الإنسان بشكل أفضل وأقوى وأقدر على متابعة الحياة وفق حيوية وحركة نشيطة فعّالة ومتألقة بعيدة عن الألم والأزمات العضوية والنفسية ، وتأمين الوسط الموضوعي لتأمين الصحة العامة للجميع.
كما أن الاستخدام الواعي لمنهجية العلم هي التي ستحقق التوازن بين نمو القدرات العلمية في الحياة والقدرات الإنسانية في الوسط الاجتماعي بشكل يجعل من الإنسان موضوع ألفة وائتلاف قائم على المحبة في جميع العلاقات الإنسانية.
فالعلمية الإنسانية ذات أبعاد مستقبلية مبنية على التأمين الأمثل للحاجات ، وتوزيعها وتطويرها وفق أسس خلقية مبنية على الاحترام والتفاهم والوفاق التام لجميع المفاهيم الإنسانية وتوحيدها فيما يخص الاستفادة الشاملة من منجزات العلم ليخدم ويعمق تطور المسيرة الإنسانية ويحافظ عليها.
حسين عجمية
Ansaroz56@hotmail.com

القيادة طموح شخصي











إن التكوين البنيوي للإنسان وعملية استيعابه ،وصياغة تصرفه الذاتي ، كثيراً ما يحتاج إلى توجيه ، لأن عملية المعرفة ليست واحدة عند جميع البشر ، فقد يستطيع البعض بفضل تكثيف الجهود الشخصية فهم واقع أكثر دقةًً وصحيةًً، ويحتاج الآخرون للوصول إلى هذه المعرفة فترة ليست بالقصيرة، من هنا تبرز أهمية القيادة في عملية التوجيه القائمة على إعطاء الآخرين السبل الواضحة في المعرفة وفي صياغة واقع أفضل من الحياة المعاشة .
فالقيادة هي العمل على تنمية وعي الآخرين ، وتوجيه هذا الوعي بالاتجاه الأفضل والأسلم من الناحية البنيوية ، وهي الأداة الفعّالة في عملية الإقناع ، وتغيير نمطية الحياة إنها القوة النابعة من صميم الذات والقادرة على إحداث وضع ينسجم مع متطلبات الحياة الحاضرة ، وفهم صيغة المستقبل المقبل ، ولو بقليل من الإشراق والرؤية الواضحة لجعل عملية التوجيه أكثر سهولة وأقوى على الحركة بين الناس. إن القيادة هي عملية تمثل المعرفة الإنسانية ، وتوجيه هذه المعرفة وفق الأسس القيادية القادرة على إعطاء أشكال حياتية جديدة في نوعها ومضمونها ، وهي الأداة في اختيار الأوضاع الإنسانية القائمة والصحيحة وطريقة الحفاظ على هذه الأوضاع . فالقيادة هي صيغة التنوع الكبير في الحياة ، وهي الطرقة اللامحدودة في عملية الخلق والإبداع والتوجيه ، إنها جميع الإمكانيات والطاقة القادرة على إحداث قفزات كبيرة في التاريخ ، تشكل جانباً مشرقاً على الدوام ، وتكون أداةً لفهم واحترام جميع اللاحقين والمساهمين في عملية صياغة المعرفة الإنسانية.
والتاريخ معبأ بالأشكال القيادية المتنوعة في مضامينها وطرائقها في تنمية الملكات الإبداعية . وكانت على الدوام هي الأداة المحركة ذات الطابع الفاعل في إعطاء فعالية المعرفة قوة الاستمرار عبر التشكيلات الاجتماعية، وهي القوة المؤثرة في صياغة مضامين اجتماعية استمرت بفاعلية داخلية في التطور التاريخي ، حيث كان للقيادة الدور العام والمؤثر في عملية تثبيت الأوضاع الاجتماعية . وتحقيق التطور على جميع الأصعدة الحياتية التي يحتاجها الإنسان . وأدت إلى التنوع اللامحدود في الحياة الإنسانية ، وكانت دائماً القوة المحركة للصراعات الداخلية عبر التاريخ بين المفاهيم والأشكال الاجتماعية القائمة ، وصياغة أشكال حياتية تنسجم مع متطلبات الأوضاع التي يفرضها تطور الإنسان ضمن واقعه البيئي .
كما أن القيادة ساهمت وبشكل واسع في إقامة الأنظمة والقوانين التي تربط الناس بعلاقات مع بعضهم البعض ، ومع الواقع الطبيعي الذين يعيشون فيه ، وهي أداة التنظيم والمحافظة على هذه العلاقات والمطورة لها وفق احتياجات تطور الواقع المتشكل .
إن القيادة هي الأسلوب القائم على العلمية في فهم وإدراك جميع المقولات المؤدية إلى إحداث التغيرات الهائلة في المجتمع ، وفي النفس الإنسانية ، وهي الطريقة العلمية في عملية إبداع المستقبل والأنظمة المؤدية إلى التغير فيما يتوافق مع النمو اللاحق للإنسان . ولكي تتخذ القيادة أبعادها الطبيعية عليها أن تتوافق مع الإنتاج الإنساني للحياة . وأن تعمل على إتمام عملية الحياة بالشكل المؤدي إلى استمرار الإنسان بفاعلية داخلية وخارجية تنسجم مع تطور الحياة المتنوعة ، لا في مضامينها فحسب وإنما في عطائها الكبير للمساهمة في بناء إنسان المستقبل .
فالقيادة هي الأسلوب المتميز في الحياة شكلاً ومضموناً ، إنها الديمومة القادرة من الناحية التكوينية لعصر إنسان المستقبل أن تخلِّد ذاتها في مقدرة الإنسان على إحداث النمطية الحياتية وفق المبادئ القادرة على إلغاء مرحلة الانهيار في الصراع الإنساني ، وإلغاء هذا الصراع فيما يحقق طموح إنسان المستقبل وذلك بإعطاء الأبعاد المتوافقة لعملية الانهيار الكبير للمسيرة الإنسانية عندما تتابع طريق الصراع والقتال الدائم.
وعلى القيادة أن تلعب الإمكانية التوافقية لجعل الإنسان غاية في الكمالية ، وإبعاده عن جميع أشكال التناحر المؤدية إلى هزيمة الإنسان عبر التاريخ ، وعلى القيادة أن تتسم بالموسعة التحضيرية لبناء إنسان المستقبل بما يجعله متجاوزاً جميع الخلافات الموروثة من العصور التناحرية على الصعيدين الفكري والمادي ، وبالتالي إعطاء الصيغتين ( الفكرية والمادية ) سمةً بنيوية ، مهامها إعداد الإنسان بالشكل الذي يحقق ذاته ، ويجنبه جميع عمليات الهدم التي تمارس من قبل مجموعة من البشر ضد مجموعة أخرى وسلبها إمكانية الإعداد للمستقبل بعيداً عن الضغوط وكافة أنواع العراقيل ، للحد من نشاط الإنسان وتقويض تبعيته وبالتالي تحقيق الاستقلالية الإنسانية بجوهرها على جميع الأصعدة حتى الفردية، وتصبح المهمة الأساسية للحياة هي التعامل مع معطيات الإنسان لامع الإنسان نفسه ، وإن الإنسان الذي لا يعطي ليس له أي صفة تعاملية ، وبالتالي تحقيق القضية الأكثر قدرة في إمكانية خلق إنسان العطاء الدائم ، وأن يتسم هذا العطاء بالفائدة ليس على المستوى الشخصي فحسب وإنما على كافة المستويات ، وأن يتوافق مع النمو الأمثل والإيجابي للحضارة الإنسانية نفسها ويحقق لها الكفاية التامة .
وعلى القيادة الإنسانية أن تلغي كافة أنواع التآمر والمؤامرات على جميع المستويات ، لأنها تؤدي إلى قمع وإذلال الإنسان بشكل مستمر وتخلق الفوضى وجميع القيم المؤدية إلى تشويه الفكر والفعل الإنساني وخلق التناحر والحروب بين البشر.

الأخلاق نظام وجداني











الأخلاق هي الدلائل والمعايير والقيم الموضوعة لتحقيق معادلة توازن الفعل الإنساني وإعطائه الصيغة الفعلية المتفق عليها ضمن الوسط المعاش،وتحقيق نوع من النفوذ من خلال التقيد بهذه الأخلاق ، وصيانة مبادئها العامة بالإضافة إلى تحقيق التوازن بين عملية تعميقها وتوسيع مبادئها ، وبين تسخيرها لتحقيق بعض الغايات من خلال الامتثال لمسيرها ونسقها العام ،وإظهار بعض النوايا من خلال الخرق المتعمد للأخلاق وتحقيق وجود متميز من خلال ذلك.
فالأخلاق في غايتها هي الحفاظ على الوفاق الاجتماعي، وتأمين نمطية معيشية منسجمة مع الحياة الحضارية التي يعيشها المجتمع ويتابع صيرورته مع تغيير هذه المعايير الأخلاقية على الدوام، فالأخلاق مع أصوليتها في الواقع تتسع لتشمل جميع العمليات الإنسانية بأفعالها المختلفة ، وإكسابها الصيغة القانونية المقبولة من الجميع والقادرة على إعلان وجودها في الواقع بمزيد من الوضوح والثقة ، مع القدرة على تقبل هذا الفعل دون أي إشكال أو تشهير غير متوافق مع الفعل الأخلاقي. والغاية الأساسية من الأخلاق هي تأمين الوحدة الإنسجامية بين الناس فيما يخص جميع الأعمال والأفكار المعلنة ، وإكسابها قوة دعائية تفعل فعلها في عقول الناس وأعمالهم، وتكسبها الدقة والانتباه، لتجعل من الإنسان حريصاً على التطابق بين أفعاله وأفكاره، وبين الأخلاق الاجتماعية ومسيرتها الذاتية، وإكساب هذه الأخلاق الكثير من التنوع في تحقيق وجودها الخاص، والمتسم بميزات وأفاق واسعة تعطي الإنسان نوعيته الخاصة في الوسط الاجتماعي، وتجعل من الآخرين مجرد مقيِّمين لهذا الإنسان، وتشكيل مفهوم عام عن شخصيته، وقد يستمر هذا المفهوم الجامد عنه متحدياً جميع القفزات الحاصلة في الحياة المغيّرة لمعاييرها ومفاهيمها الأخلاقية بالذات.
فالأخلاقية المنسجمة مع الواقع والمقيدة بمبادئه ومعارفه وقواعده السلوكية تؤدي بالضرورة إلى الانسجام التام بين الفعل الأخلاقي الشخصي والفعل الأخلاقي الاجتماعي، لتأمين التوافق الدائم عبر حركة المجتمع التطورية، بحيث تؤدي إلى ضبط الأفعال الإنسانية وانسجامها مع الواقع الحياتي للمجتمع، هنا تبرز الأخلاق كأنها الناظم والقادر على توحيد الأفعال الظاهرية في معايير متشابهة ، وقد تتعدى ذلك لتدخل دائرة المعرفة وتعطي نمطية فكرية ثابته ومتقاربة إلى حدٍ كبير مع المفاهيم العامة للمجتمع، وتصبح المحاسبة هي النمطية الغالبة في محاصرة الأفعال الأخلاقية الشاذة ، وتتخذ هذه المحاسبة أشكالاً متعددة ومتنوعة ، سواءً على المستوى الشخصي باتخاذ شتى أنواع العقاب الفردي المؤدي إلى التقليل من متابعة الفعل الشاذ ومحاصرته، أو بالمقاطعة السلوكية غير المعلنة والمعبر عنها بالموقف الاجتماعي الموحد في مهاجمة الشاذين وملاحقتهم ومقاطعتهم بشكل غير معلن، فينعزل المخالف ويرى نفسه في وسط غير مرغوب فيه، وغير ميّال لمعاشرته ومعاملته ، فيتجه نحوى الفئات التي تشاطره سلوكه وأفعاله الأخلاقية ، فيتأزم الوضع ويتخذ شكل عصابات منحرفة في غاية الخطورة على أمن الآخرين وسلامتهم.
والأخلاق بتبايناتها العامة بين الفئات الاجتماعية المتفاوتة في الحياة الاقتصادية ولاجتماعية والفكرية، تلعب دوراً هاماً في تنظيم العلاقات بين هذه الفئات، وتعطيها أبعاداً متباينة في طرائق الحياة العامة فتصبح الأخلاق في معاييرها، وكأنها تتسم بالنمطية المتماثلة من حيث استخدام وسائل الحياة الإنتاجية والترفيهية، مما يؤدي إلى تنوعية العلاقات الأخلاقية وتبايناتها النوعية في المجتمع ، وعلى الغالب فإن الأساس القوي في توحيد هذه المفاهيم والمعايير الأخلاقية هو الدين، لأنه موجه للجميع وبشكل فوقي ، ويمتلك قوة الإقناع والحجة والضغط النفسي والاجتماعي، وجميع مبادئ الالتزام والإلزام الأخلاقي لجميع البشر دون تمييز.
غير أن المحافظة على المكتسبات وصيانتها يجعل أمر التعامل الأخلاقي واقعاً ماكراً في أساليبه باعتباره يمتلك وسائل الردع الأخلاقي في بنيته العامة، وذلك من خلال نشر المفاهيم والأساليب المعيقة والمعرقلة لأي فعل قد يؤدي إلى إحداث تغيرات في المسيرة الأخلاقية العامة، وإذا ما ظهرت هذه المفاهيم الجديدة كثيراً ما يصعب التعامل معها واعتناقها لعدم توفر الاستعداد الاجتماعي التام لتقبل الأخلاق الجديدة والتعامل معها.
أما تربية الإنسان الجديد في عضويته والمُعَد للدخول في الواقع الأخلاقي للمجتمع ، فإن التربية تلعب الدور الأكبر في تلقين الإنسان المعاني الأخلاقية مرتبة وفق الحاجة إليها وفي الأوقات المحددة ، وغاباً ما تكون دروساً في غاية القسوة والضغط على الإرادة لإدخال المفاهيم الأخلاقية في نفسية الإنسان وإعطائها إمكانية الثبات والديمومة ، وإن الإخلال في هذه التربية يؤدي إلى ظهور أفعال مزعجة لواقع العلاقات وأسس التعامل بين الجيل الجديد والقديم وقد تتخذ أبعاداً عدائية.
فالنظرة التطورية للأخلاق في سياقها العام يعكس مجمل التطورات والأفكار الناشئة عن الأعمال الأخلاقية عبر الزمن وإن مجرد محاكمة موضوعية عن نشوء الأفعال الأخلاقية تقودنا إلى أسبقية الفعل الإنساني على الحياة الأخلاقية وإن الصيغ الأخلاقية الناشئة ليست إلا التنظير الدقيق للأفعال الإنسانية ، فالحياة السلوكية للناس وعملية نموها وتشعبها بشكل لا يمكن حصرها من خلال التطور التاريخي للإنسان جعل من إمكانية صياغة هذه الأفعال في قوانين أخلاقية أمراً ضرورياً وفي غاية الأهمية ، وذلك لتحديد سلوكية متوازنة وموحدة للجميع ومن أجل الجميع، لا تُخل أو تخالف المصالح المشتركة للناس عبر الزمن ، فلولا نشوء الأفكار والقوانين الأخلاقية لتوسعت دائرة الأفعال الإنسانية ، واتخذت أبعاداً في غاية الخطورة، ومهددة للسلامة الإنسانية العامة ومن أجل المحافظة على النمو ألتناسقي المنسجم للتشكيلات الاجتماعية عبر التاريخ، كان لابد من صياغة القواعد الأخلاقية بمزيد من الشدة والاحترام لها ولالتزام بمبادئها ، للمحافظة على الحياة من خطر إفناء الناس بعضهم البعض، ولإبقاء المصير الإنساني منسجماً مع مبادئه وقيمه الأخلاقية ، كان لابد من الالتزام بهذه القيم وإعطائها الصفة الكمالية في واقع الحياة اليومية.
والأخلاق في وحدتها هي الصيغة الأساسية للإبقاء على الرابطة الاجتماعية ، وتوحيد إمكانياتها فيما يحقق النمو الأمثل لهذه الحياة ويعطيها أبعاداً تتفق مع الحاجات العامة للمجتمع ، وبالتالي فإن الأخلاق هي التعبير عن النمطية المُعاشة لجميع التشكيلات الاجتماعية عبر التاريخ، لأن مجموعة الأفعال الأخلاقية المتولدة عن حياة اجتماعية معينة ، تعبر وبشكل واضح عن المدى التطوري الذي وصل إليه المجتمع ، ومن خلال قراءة الأفكار والأعمال الأخلاقية لتاريخ الجماعات البشرية ، فإننا نحصل على جميع الملكات الإبداعية لهذه الجماعات وإنتاجها الحضاري على كافة المستويات.
وإن مجرد التغيير المستمر للحياة الاجتماعية لجميع الحضارات في التاريخ الإنساني، كان يمثل على الدوام التغيير المستمر للحياة الأخلاقية وكثيراً من الأشكال الأخلاقية المحترمة في عصر من العصور احتقرت وأبطل مفعولها الأخلاقي، وأصبح ينظر إليها كأنه أفعال مقرفة ومسيرة للإختقار، وتعتبر وصمة عار في تاريخ صياغة القوانين والأفكار الأخلاقية ، وهكذا تطورت الإنسانية على كومة من الأفعال الأخلاقية الرزيلة لأنها أعاقت نمو الإنسانية في سياقها العام. وما دامت الأخلاق هي القضية الاجتماعية الأكثر إلحاحاً في السياق العام لبنية وتنظيم العلاقات بين البشر ،فإن الشخصية تلعب دوراً متميزاً في كيفية التعامل مع الأخلاق العامة وفهمها وفرزها على شكل مجموعة من الأفعال والأفكار في الواقع الاجتماعي نفسه ، وتصبح الأخلاق في واقع الشخصية عملية تلاؤم وتكيف وإبداع وفق الخصوصية الذاتية للشخصية ، والمتعلقة في البنية النوعية للأخلاق بحيث تصبح الأخلاق وضعاً متميزاً ومميزاً لكل شخصية على انفراد بالرغم من تواجدها في واقع عام واحد وفي حقيقة الأمر فإن الشخصية في تعاملها مع الأخلاق العامة تمتلك القدرة والإمكانية في عملية تحديد النوعية الأخلاقية العامة وفقاً لهذه الأفعال، وفي المقابل تتضح الشخصية بفعلها الأخلاقي عندما تتطابق مع الأخلاق في ماهيتها وحقيقتها العامة . فالمنظومة العامة للأخلاق وتنوعها الكبير في جميع المجتمعات الإنسانية، هي صيغة إنشائية قائمة ذات أهداف محددة لتأمين العلاقات البنيوية في المجتمع وأسس التعامل الإنساني العام لتحقيق واقع منسجم من الناحية العامة، ومن هنا تأخذ القوانين الأخلاقية صفة الفوقية ذات القدرة الإلزامية لتحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم البعض. فجميع القوى القائمة والناتجة عن التطور التاريخي العام سواء أكانت ملتزمة بقواعد أخلاقية مرسلة من عوالم فوقية والمتواجدة في كافة الديانات السماوية ، أو نتيجة القواعد والأسس الناتجة عن التطور الاجتماعي كتعبير حقوقي أو عرفي لتنظيم الصيغ التعاملية للناس وفق مصالح محددة ومتفق عليها ، فإنها بمجملها تعبير عن التطابق بين الفعل الاجتماعي في حركته والفكر الاجتماعي القائم والمعبر عن هذا الفعل بجميع صيغه ومظاهره الحضارية القائمة.
أما ألأخلاق المتكاملة في بنيتها واتساع حركتها ، فهي الإمكانية الدائمة والمستمرة لخلق واقع أفضل وأكثر قدرة على حل جميع العراقيل والمصاعب المهددة لأمن وسلامة الإنسانية. وتأمين النمو المنسجم للواقع الإنساني العام في ماهيته إنها الأخلاق القادرة على إلغاء جميع الفرق الحضارية ، وكافة أشكال الفوقية والسيادة القائمة على السيطرة والسلب المستمر لحقوق الآخرين ومصلحهم، وتقويض حقوقهم في النمو والعطاء الأخلاقي الحر والدائم، والأخلاق الحقيقية القادمة هي القادرة على استيعاب جميع الإبداعات العامة في السلوك الناشئ عن التنوعية اللامحدودة في العلاقات الإنسانية ومقدرة الأخلاق في أن تؤمن وضعاً إنسانياً صحيحاً وصحياً قادراً على التوفيق بين العمليات النفسية الداخلية وبين الأفعال القائمة في المجتمع وإزالة الفروق بينهما بشكل واضح وعلني.

حسين عجمية
Ansaroz56@hotmail.com

التربية مطلب اجتماعي











التربية هي الصياغة العامة للإنسان وهي الأداة البنائية الأساسية الدائمة والقادرة على إعطاء الإنسان إمكانية معايشة الواقع والانسجام معه، ليصبح الإنسان قادراً على التعامل وفق جميع المقولات المنبثقة من الإنتاج الاجتماعي عبر مراحل التطور التاريخي، وكيفية فهم قيمه الأخلاقية والتعامل مع هذا الواقع وإحداث تغيرات فيه.
من هنا تبرز التربية كوحدة بناء وتحضير الإنسان ، ليصبح قادراً على معايشة العطاء الإنساني وفهم جميع التغيرات الناتجة عن تطوره وتظهر التربية من جميع قنوات الواقع لتؤثر في الإنسان وتحدد معالمه الأساسية وصياغته العامة، والنقص في عملية نقل التربية يؤدي إلى خلل في نفسية الإنسان وتشوّه مسيرته الحياتية وقد يؤدي النقص التربوي المذكور إلى انحراف ذات الإنسان عن مضامينها الجوهرية ، وينشأ الإنسان المشوه والمنحرف المتجه نحو التخريب العام، بشكل أكثر سلبية من أخطاء الواقع الاجتماعي نفسه ،ويصبح الإنسان عدوانياً ميالاَ إلى الخرق المستمر للعلاقات والقوانين ولأنظمة ليس على المستوى النفسي والفكري فحسب ، بل وعلى المستوى الحياتي والسلوكي ، لإظهار نفسه كقوة متميزة في واقعها تعمل على مضايقة وإزعاج الآخرين ، وإشاعة القلق وعدم الثقة في الواقع التعاملي ، مما يجعل العلاقات الاجتماعية تأخذ صيغاً انتقائية ، وكأن الإنسان يبحث عن مثيله في الواقع الاجتماعي ، مما يؤدي إلى انقسام اجتماعي يأخذ طابعاً متميزاً خفياً في تأثيره على الحياة الاجتماعية ، ويصبح الإنسان حذراً غامضاً قي تعامله مع الآخرين ، وميالاً للكشف المستمر عن المضامين الحياتية والنفسية في داخلهم ، وتندمج الكيانات الفردية في المجتمع ضمن وحدة متماثلة من الناحية الأخلاقية والفكرية مما يفقدها الكثير من الطاقات الضائعة من جراء عملية الكشف والبحث عن هذه الكيانات المتماثلة ، وبقاء الغموض المستمر للمضامين الذاتية من خلال إشاعة عدم الثقة والانحراف في الحياة الاجتماعية.
وعندما تتعمق التربية لتأخذ مضامين وفعاليات إبداعية تعزز الحياة وتعطيها القدرة على الاختيار الأمثل للمفاهيم والمضامين الحياتية ، عندئذ تلعب التربية دوراً موجهاً وقائداَ لخلق أنماط ومفاهيم اجتماعية جديدة قادرة على مواكبة الحركة العامة للتطور، ويتمثل فهم الإنسان الاجتماعي وامتلاك القدرة على توجيهه بشكل يواكب المسيرة الإنسانية ويعطيها أبعاداً جوهرية في الحياة المتنامية ، وتجديداً دائماً لهذه الحياة وفق مضامين صيرورتها المستقبلية. هنا تصبح التربية قوة فعّالة في الواقع الاجتماعي ، قادرة على فحص جميع القيم السلوكية للحياة ، ونقدها وتغيير ما يعرقل نمو الحياة بشكل مستمر، وعندها تصبح هذه الحياة رافضة جميع صيغ الجمود ومرغوبة من الجميع. والتربية وفق المنظور الديناميكي تكسب الواقع حركة مستمرة للقضاء على العراقيل المؤدية إلى تكريس التناقض والتعارض بين البشر ، وبالتالي التوجيه المستمر من أجل بناء حياة أساسها التفاهم والوضوح بين الجميع ، لتأخذ التربية أبعاداً في غاية الدقة على تنشئة الإنسان بعيداً عن التشوه. لقد كانت التربية عبر التاريخ من خصائص المجتمع ألتناحري، يعني التربية على طريقة الصراع المستمر بين البشر وهذا ما يكسبها طابعاً عدوانياً في غاية الخطورة ، وكثيراً ما تكرس الواقع التدميري للحياة والإنسان وجميع الإنتاج الفكري والمادي. لقد أخذت التربية نسقاً عاماً واحداً عبر التاريخ ، تمثل في إعطاء القوى المتصارعة صيغتين في التربية الحياتية ، فالقوى الضعيفة والمحكومة عمقت تربية الضعف والخوف والهزيمة في نفس الإنسان، وأعطت إنساناً تابعاً خائفاً غير فعّال يتسم وجوده الإنساني في عملية البحث المستمر لطرائق خدمة الآخرين وكيفية تأمين الراحة ومستلزماتها لهم. مما أفقد هذا النوع من التربية صيغة الإبداع العام في الحياة ، وكانت دائماً تخلق شخصية نقليه تابعة ، راضيه بالمألوف، مسايرة للواقع، مهزومة في داخلها ، تنتج وكأن الإنتاج لا يخصها ، مما أكسبها روح الإذلال العام على الدوام .
وفي الأزمات الخانقة والمدمرة المتجهة إلى تقويض الحياة العامة كانت تظهر أنواع جديدة من السلوك ، ناجمة عن تربية رفضية هي في غاية السريّة تنمو لتأخذ طابع عصيان عام كان يدعم مسيرة الحياة ويكسبها قوة جديدة وفعالية حياتية نوعية شكلاً ومضموناً، وكثيراً ما كانت تعطي إنتاجاً فكرياً تربوياً جديداً نوعياً تكدس في الإشراقات النوعية الفكرية عبر التاريخ، وفي الاتجاه المقابل أعطت التربية الفوقية للقوى المسيطرة في التاريخ إنتاجاً تربوياً خاصاً تميز بسمته وخصائصه النوعية شكلاً ومضموناً، لقد كرست تربية السيادة والفوقية والتمايز النوعي عن الآخرين ، مما أعطى هذه القوى انعزالاً في الواقع ولم تتعمق هذه التربية لتشمل جميع مقومات المجتمع ، بل انحصرت في نوعية خاصة اكتسبت مفاهيم ذاتية لجميع الأساليب والطرائق التعاملية في الحياة الاجتماعية ، وتعمقت حتى أخذت طابعا نفسياً متميزاً في خصوصيته وكثيراً ما كان يتخذ طابعاً ألوهياً قائماً بذاته، مكرساً بمضامين تفوق تصور البشر العاديين ، مما أعطى التربية صيغة متعالية فوق أفعال البشر وأهوائهم ، أدت إلى تدعيم التصورات الفكرية القائمة بذاتها خارج ميدان الحياة والعمل، وأصبحت في الواقع وكأنها عطاء خارق أضافت إلى المعرفة نوعاً جديداً من الفكر والمعرفة عن التركيبة الإنسانية تاريخياً.
التربية هي الخلق الواضح للإنسان وإعطائه أبعاداً في غاية النماء والإمكانية، وتنمية قدراته الذاتية والموضوعية إنها العطاء الإنساني من أجل بناء الحضارة على أسس هي في غاية الخدمة للجميع ن ومن أجل الجميع إنها التعبير الأمثل لعملية الوفاق بين البشر وإلغاء كافة أنواع الفروقات القائمة والمتشكلة عبر التاريخ ، وإعطاء الإنسانية صيغة اجتماعية واحدة متكافئةً جوهرياً ومتميزة بالتآخي الإنساني الحر والمستمر .
التربية هي إنتاج الإنسان المتفوق في إمكانياته وطاقاته على أن يكون هذا التفوق نوعياً ليس على الصعيد الشخصي والجانب الذاتي الخاص، إنما عطاءٌ موضوعي متفق ومتوافق مع المسيرة الإنسانية ومن ضمنها ويتفق مع الحياة المثلى للآخرين في إلغاء كافة الفروق البنيوية والمكتسبة من عصور لا علاقة لإنسان الحاضر في وجودها. التربية يجب أن تأخذ صورة الوضوح التام ، لأن التلقين التربوي المغرق في السريّة والذاتية تدفع الإنسان لإتباع مناهج حياتية تعرقل البناء الإنساني وتوسع دوائر الانحراف بكافة أشكالها، وتسعى للإبقاء الكبير على التنوعية الغريبة في الأخلاق الاجتماعية والإنشقاقات الفئوية المؤدية إلى إحداث فجوات غير متوقعة في تطور الإنسان وتخلق مجالاً للتعدية الحياتية في الواقع السلوكي للبشر وتأخذ الأبعاد النفسية أشكالاً تعددية في غاية التنوع.
وعندما يأخذ العطاء التربوي سمة الوضوح في إعطاء كافة القيم والمفاهيم والسلوك المؤدي إلى بناء الإنسان وفق ما يجعله قوة إبداعية خيرة ، ساعية إلى الاندماج مع الملكات الإبداعية للإنسانية وفق ما يحدد نموها المتوافق مع الوحدة الإنسانية العامة ، والقادرة على إعداد الحياة بشكل يوفر المجال الأقوى والأكثر قدرة على استقبال الإنسان القادم ، وتعطيه الحب في أوضح صوره ، عندها لن يكون هناك أي خطر على الحياة الإنسانية وتصبح الحياة صيغة إكتمالية نوعية وجديدة خالية من الأشكال الصدامية.
ويصبح العلم وفق المنظور التربوي الجديد خدمة شاملة لجميع أبناء البشر، وتتسع أفق الاكتشافات لتصبح أكثر عمومية وأكثر فائدة، قادرة على بناء إنسان المستقبل بشكل يؤدي إلى عزته وسيادته ، ويسعى المفهوم التربوي الجديد إلى تقويض جميع فرص الخطر التي تهدد الإنسانية بالفناء، وتصبح الحياة قضية متكاملة على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية ، ويغزو الفرح الحياة ، وتتعزز الثقة بالآخرين ويصبح الفرد ولآخرون في وحدة إكتمالية تكسر جميع الحواجز النفسية والاجتماعية وغيرها من العوائق التي تقف أمام مسألة تفاهم البشر.
وعلى التربية أن تعمق أعلى صيغ المعاملة الإنسانية وأكثرها تطوراً ، وأن تكون قادرة على كشف جميع عمليات الرياء والكذب في العلاقات المتكونة عبر التاريخ وتوضيح المفاهيم الغريبة لنظرية السيطرة والإخضاع والمتبناة من قبل بعض الناس الذين يهدفون في برامجهم تدمير الحياة الحرة ن وإعاقة نمو الإمكانيات العلمية للإنسان وتوجيهها بالاتجاه التخريبي والمشوه للحياة بكافة مضامينها. فتربية الإنسان بالشكل المتكافئ تعطيه قدرة واسعة على إبراز الشخصية ذات القدرة العالية في عملية التعامل المنسجم والمتفق مع الآخرين وإمكانياتهم ، وهكذا تصبح الحياة مليئة بالإشراقات الإنسانية المتنوعة والمشرِّفة للحياة بجميع منتجاتها وعلاقاتها المتبادلة وتحقيق التكامل الإنساني .
إن التربية في وحدتها هي إعطاء الإنسان البنية التكوينية الواحدة من الناحية العلاقاتية ، وخلق الإنسان في صيغة كونية ، عندها يصبح الإنسان سيداً لذاته، وموجهاً هذه الذات فيما يعمق البناء التطوري للإنسانية . ويكسبها تنوعاً كبيراً في مضامين الحياة الإيجابية القائمة، ويغدو الإنسان وكأنه مع الجميع أساس قائم على الوحدة وتحقيق جميع فرص التآخي العالمي.
وتنهزم المفاهيم السلبية إلى الأبد باعتبارها إحدى المنتجات الهائلة الناتجة عن تطور المجتمع ألتناحري وتصبح نهاية الفكر القائم على الصراع بداية خلق الوحدة الفكرية للحياة، ويصبح السلب والإيجاب في متحف التاريخ ، ويصبح الفكر واحداً في شكله ومضمونه لا يخضع لأي قيمة تنتمي إلى الفوقية أو الدونية ، وتسقط جميع عمليات التقسيم القائمة على خلق فجوات فكرية وإقامة الفتن بتعميق الناقض بين الإنسان وإنتاجه ، وبين الإنسان وعلاقته مع غيره، وتصبح الحياة في وحدتها أكثر سعةً وعطاء ، وأكثر قدرة على تجديد نفسها وكشف أخطائها ، دون أن يرافق ذلك أي عملية تعصبية، حيث يصبح الذهن البشري أكثر مقدرة على التلاؤم والتكيف وفق الظروف الجديدة الناشئة ، لأنها معبرة وبشكل تام عن غاية الإنسان بالذات، ومدى احترامه لوجوده مع الآخرين، وإعطاء الوجود أبعاده الحقيقية ، عندها تصبح التربية غير منفصلة عن الحياة ، وهي في جوهرها تعبير عن حياة الإنسان نفسه.

الإبداع نظام الوجود




الإبداع هو التعميق الأسمى للحياة وإعطاء الابتكار واقعاً وجدانيا حريصاً على تكميل جميع معطيات الفكر والإنتاج الإنساني لتحقيق أبعاد إنمائية ، مهمتها رفد الواقع بمزيد من العطاء والتطور على كافة المستويات، وبالتالي إحداث نقلات نوعية نموذجية في تاريخ التطور الإنساني.
تظهر أهمية الإبداع في تقريب الحياة والمفاهيم المتنوعة للإنسانية، بشكل يؤدي إلى اندماجها وصياغة واقعها المتكامل، وبناء أسس نهضوية قائمة على الامتلاك الأمثل والمتكافئ للإنتاج الإنساني، وصيرورة هذا الامتلاك فيما يحقق النمو المطرد للحياة الاجتماعية والاقتصادية ويعمل لتعميق آفاق المعرفة بكافة مجالاتها، واختيار المفاهيم الأكثر حرصاً وفائدة لتأسيس الإنسان وتحقيق وجوده الإنساني، بعيداً عن أية مؤثرات قد تؤدي إلى التبعية أو الفوقية،وتعرقل عملية الانسجام وتدفع إلى التناحر لأسباب هي في غاية المرضية والانحراف. وليس الإبداع التخصصي هو ما يعطي النمو المتكافئ والقفزات الرامية إلى تحقيق التطور في كافة ميادين الحياة . الإبداع التخصصي هم إبداع في جانب ما مع بقاء جميع الجوانب المتبقية على حالتها مما يؤدي إلى تباين في واقع النمو والتطور، ويؤدي كذلك إلى استغلال هذا الإبداع، فيما يحقق الطموح الشخصي المليء بالنفعية وحبُ التفوق والاستغلال ، ويجعل التباينات كبيرة في المواقف الإنسانية الناجمة عن ذلك، والمؤدية إلى تشويه وعرقلة المسيرة الإنسانية والحد من طاقاتها، فالمتمكن من الحياة وصاحب القدرة سواء أكان مؤسسة أو شركة إلى ما هنالك يستغل الإبداع التخصصي لإظهار تفوقه، وتحقيق مكاسب قد تكون أداة عرقلة أو كابوساً يلاحق الآخرين بالرعب أو يقوم بتطوير فئة أو دولة ... إلخ، ويبقى الآخرين تابعين لهذا التطور وخاضعين له ، فيظل التناقض واقعاً سائداً ومعرقلاً لمسيرة الوفاق الإنساني.
الإبداع التخصصي هو في واقعه تابع ومرتهن ن مرتكز في أساسه على النفعية لأنه لا يلبي الاحتياج الأسمى للإنسانية. بالإضافة إلى أنه يخلق فروقاً في طاقات الشعوب، وفي إمكانيات عطائها. وإن خلق مثل هذا التفاوت يجعل من إمكانية نقل الإبداع أو الإنتاج الإبداعي علية استغلالية تؤدي إلى خلق فروق اجتماعية واقتصادية وفكرية بين البشر، مما يمهد إلى انتشار أفكار قاصرة وسطحية، كما حدث في نشوء الفكر النازي والفاشي والمالتوسي، وغيرها من الأفكار المبنية على قصر النظر والفهم غير العلمي للحقيقة الإنسانية .
الإبداع الحر هو إبداع اللاقيود، وغير المقيد بأي وضعية يجعله تابعاً ومتخصصاً، الإبداع الحر هو عطاءٌ لا محدود في واقع بلا حدود ولا مقيد ولا تابع، إنه الانتصار العظيم على جميع المعوقات المؤدية إلى تشكيل فروقات إنسانية بيت الشعوب، وغير متخصص لفائدة نوع ضد نوعٍ آخر، إنه كمالية العمل المؤدي إلى خدمة جميع البشر بدون تمييز ، ومن ناحية أخرى هو إبداع لا تخصصي على المستوى الشخصي ، فالمبدع عليه أن يكون منسجم مع ذاته أولاً، وعليه أن يكون جديداً بجميع نواحي الحياة التي يعيشها ، يجب أن ينظر إلى الإبداع على أته صيغة كاملة تشمل جميع العطاءات المرافقة لمسيرة الحياة مع الآخرين ، الإبداع الحقيقي هو الصيغة الجوهريّة للحياة ذاتها ، وإعطاء قيمة الإنسان الشكل الأكثر بعداً ووجدانية.
وأخيراً إنه عملية خلق الإنسان بعيداً عن الشوائب.

حسين عجمية
ansaroz@hotmail.com