الأحد، 26 أكتوبر 2008

التربية مطلب اجتماعي











التربية هي الصياغة العامة للإنسان وهي الأداة البنائية الأساسية الدائمة والقادرة على إعطاء الإنسان إمكانية معايشة الواقع والانسجام معه، ليصبح الإنسان قادراً على التعامل وفق جميع المقولات المنبثقة من الإنتاج الاجتماعي عبر مراحل التطور التاريخي، وكيفية فهم قيمه الأخلاقية والتعامل مع هذا الواقع وإحداث تغيرات فيه.
من هنا تبرز التربية كوحدة بناء وتحضير الإنسان ، ليصبح قادراً على معايشة العطاء الإنساني وفهم جميع التغيرات الناتجة عن تطوره وتظهر التربية من جميع قنوات الواقع لتؤثر في الإنسان وتحدد معالمه الأساسية وصياغته العامة، والنقص في عملية نقل التربية يؤدي إلى خلل في نفسية الإنسان وتشوّه مسيرته الحياتية وقد يؤدي النقص التربوي المذكور إلى انحراف ذات الإنسان عن مضامينها الجوهرية ، وينشأ الإنسان المشوه والمنحرف المتجه نحو التخريب العام، بشكل أكثر سلبية من أخطاء الواقع الاجتماعي نفسه ،ويصبح الإنسان عدوانياً ميالاَ إلى الخرق المستمر للعلاقات والقوانين ولأنظمة ليس على المستوى النفسي والفكري فحسب ، بل وعلى المستوى الحياتي والسلوكي ، لإظهار نفسه كقوة متميزة في واقعها تعمل على مضايقة وإزعاج الآخرين ، وإشاعة القلق وعدم الثقة في الواقع التعاملي ، مما يجعل العلاقات الاجتماعية تأخذ صيغاً انتقائية ، وكأن الإنسان يبحث عن مثيله في الواقع الاجتماعي ، مما يؤدي إلى انقسام اجتماعي يأخذ طابعاً متميزاً خفياً في تأثيره على الحياة الاجتماعية ، ويصبح الإنسان حذراً غامضاً قي تعامله مع الآخرين ، وميالاً للكشف المستمر عن المضامين الحياتية والنفسية في داخلهم ، وتندمج الكيانات الفردية في المجتمع ضمن وحدة متماثلة من الناحية الأخلاقية والفكرية مما يفقدها الكثير من الطاقات الضائعة من جراء عملية الكشف والبحث عن هذه الكيانات المتماثلة ، وبقاء الغموض المستمر للمضامين الذاتية من خلال إشاعة عدم الثقة والانحراف في الحياة الاجتماعية.
وعندما تتعمق التربية لتأخذ مضامين وفعاليات إبداعية تعزز الحياة وتعطيها القدرة على الاختيار الأمثل للمفاهيم والمضامين الحياتية ، عندئذ تلعب التربية دوراً موجهاً وقائداَ لخلق أنماط ومفاهيم اجتماعية جديدة قادرة على مواكبة الحركة العامة للتطور، ويتمثل فهم الإنسان الاجتماعي وامتلاك القدرة على توجيهه بشكل يواكب المسيرة الإنسانية ويعطيها أبعاداً جوهرية في الحياة المتنامية ، وتجديداً دائماً لهذه الحياة وفق مضامين صيرورتها المستقبلية. هنا تصبح التربية قوة فعّالة في الواقع الاجتماعي ، قادرة على فحص جميع القيم السلوكية للحياة ، ونقدها وتغيير ما يعرقل نمو الحياة بشكل مستمر، وعندها تصبح هذه الحياة رافضة جميع صيغ الجمود ومرغوبة من الجميع. والتربية وفق المنظور الديناميكي تكسب الواقع حركة مستمرة للقضاء على العراقيل المؤدية إلى تكريس التناقض والتعارض بين البشر ، وبالتالي التوجيه المستمر من أجل بناء حياة أساسها التفاهم والوضوح بين الجميع ، لتأخذ التربية أبعاداً في غاية الدقة على تنشئة الإنسان بعيداً عن التشوه. لقد كانت التربية عبر التاريخ من خصائص المجتمع ألتناحري، يعني التربية على طريقة الصراع المستمر بين البشر وهذا ما يكسبها طابعاً عدوانياً في غاية الخطورة ، وكثيراً ما تكرس الواقع التدميري للحياة والإنسان وجميع الإنتاج الفكري والمادي. لقد أخذت التربية نسقاً عاماً واحداً عبر التاريخ ، تمثل في إعطاء القوى المتصارعة صيغتين في التربية الحياتية ، فالقوى الضعيفة والمحكومة عمقت تربية الضعف والخوف والهزيمة في نفس الإنسان، وأعطت إنساناً تابعاً خائفاً غير فعّال يتسم وجوده الإنساني في عملية البحث المستمر لطرائق خدمة الآخرين وكيفية تأمين الراحة ومستلزماتها لهم. مما أفقد هذا النوع من التربية صيغة الإبداع العام في الحياة ، وكانت دائماً تخلق شخصية نقليه تابعة ، راضيه بالمألوف، مسايرة للواقع، مهزومة في داخلها ، تنتج وكأن الإنتاج لا يخصها ، مما أكسبها روح الإذلال العام على الدوام .
وفي الأزمات الخانقة والمدمرة المتجهة إلى تقويض الحياة العامة كانت تظهر أنواع جديدة من السلوك ، ناجمة عن تربية رفضية هي في غاية السريّة تنمو لتأخذ طابع عصيان عام كان يدعم مسيرة الحياة ويكسبها قوة جديدة وفعالية حياتية نوعية شكلاً ومضموناً، وكثيراً ما كانت تعطي إنتاجاً فكرياً تربوياً جديداً نوعياً تكدس في الإشراقات النوعية الفكرية عبر التاريخ، وفي الاتجاه المقابل أعطت التربية الفوقية للقوى المسيطرة في التاريخ إنتاجاً تربوياً خاصاً تميز بسمته وخصائصه النوعية شكلاً ومضموناً، لقد كرست تربية السيادة والفوقية والتمايز النوعي عن الآخرين ، مما أعطى هذه القوى انعزالاً في الواقع ولم تتعمق هذه التربية لتشمل جميع مقومات المجتمع ، بل انحصرت في نوعية خاصة اكتسبت مفاهيم ذاتية لجميع الأساليب والطرائق التعاملية في الحياة الاجتماعية ، وتعمقت حتى أخذت طابعا نفسياً متميزاً في خصوصيته وكثيراً ما كان يتخذ طابعاً ألوهياً قائماً بذاته، مكرساً بمضامين تفوق تصور البشر العاديين ، مما أعطى التربية صيغة متعالية فوق أفعال البشر وأهوائهم ، أدت إلى تدعيم التصورات الفكرية القائمة بذاتها خارج ميدان الحياة والعمل، وأصبحت في الواقع وكأنها عطاء خارق أضافت إلى المعرفة نوعاً جديداً من الفكر والمعرفة عن التركيبة الإنسانية تاريخياً.
التربية هي الخلق الواضح للإنسان وإعطائه أبعاداً في غاية النماء والإمكانية، وتنمية قدراته الذاتية والموضوعية إنها العطاء الإنساني من أجل بناء الحضارة على أسس هي في غاية الخدمة للجميع ن ومن أجل الجميع إنها التعبير الأمثل لعملية الوفاق بين البشر وإلغاء كافة أنواع الفروقات القائمة والمتشكلة عبر التاريخ ، وإعطاء الإنسانية صيغة اجتماعية واحدة متكافئةً جوهرياً ومتميزة بالتآخي الإنساني الحر والمستمر .
التربية هي إنتاج الإنسان المتفوق في إمكانياته وطاقاته على أن يكون هذا التفوق نوعياً ليس على الصعيد الشخصي والجانب الذاتي الخاص، إنما عطاءٌ موضوعي متفق ومتوافق مع المسيرة الإنسانية ومن ضمنها ويتفق مع الحياة المثلى للآخرين في إلغاء كافة الفروق البنيوية والمكتسبة من عصور لا علاقة لإنسان الحاضر في وجودها. التربية يجب أن تأخذ صورة الوضوح التام ، لأن التلقين التربوي المغرق في السريّة والذاتية تدفع الإنسان لإتباع مناهج حياتية تعرقل البناء الإنساني وتوسع دوائر الانحراف بكافة أشكالها، وتسعى للإبقاء الكبير على التنوعية الغريبة في الأخلاق الاجتماعية والإنشقاقات الفئوية المؤدية إلى إحداث فجوات غير متوقعة في تطور الإنسان وتخلق مجالاً للتعدية الحياتية في الواقع السلوكي للبشر وتأخذ الأبعاد النفسية أشكالاً تعددية في غاية التنوع.
وعندما يأخذ العطاء التربوي سمة الوضوح في إعطاء كافة القيم والمفاهيم والسلوك المؤدي إلى بناء الإنسان وفق ما يجعله قوة إبداعية خيرة ، ساعية إلى الاندماج مع الملكات الإبداعية للإنسانية وفق ما يحدد نموها المتوافق مع الوحدة الإنسانية العامة ، والقادرة على إعداد الحياة بشكل يوفر المجال الأقوى والأكثر قدرة على استقبال الإنسان القادم ، وتعطيه الحب في أوضح صوره ، عندها لن يكون هناك أي خطر على الحياة الإنسانية وتصبح الحياة صيغة إكتمالية نوعية وجديدة خالية من الأشكال الصدامية.
ويصبح العلم وفق المنظور التربوي الجديد خدمة شاملة لجميع أبناء البشر، وتتسع أفق الاكتشافات لتصبح أكثر عمومية وأكثر فائدة، قادرة على بناء إنسان المستقبل بشكل يؤدي إلى عزته وسيادته ، ويسعى المفهوم التربوي الجديد إلى تقويض جميع فرص الخطر التي تهدد الإنسانية بالفناء، وتصبح الحياة قضية متكاملة على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية ، ويغزو الفرح الحياة ، وتتعزز الثقة بالآخرين ويصبح الفرد ولآخرون في وحدة إكتمالية تكسر جميع الحواجز النفسية والاجتماعية وغيرها من العوائق التي تقف أمام مسألة تفاهم البشر.
وعلى التربية أن تعمق أعلى صيغ المعاملة الإنسانية وأكثرها تطوراً ، وأن تكون قادرة على كشف جميع عمليات الرياء والكذب في العلاقات المتكونة عبر التاريخ وتوضيح المفاهيم الغريبة لنظرية السيطرة والإخضاع والمتبناة من قبل بعض الناس الذين يهدفون في برامجهم تدمير الحياة الحرة ن وإعاقة نمو الإمكانيات العلمية للإنسان وتوجيهها بالاتجاه التخريبي والمشوه للحياة بكافة مضامينها. فتربية الإنسان بالشكل المتكافئ تعطيه قدرة واسعة على إبراز الشخصية ذات القدرة العالية في عملية التعامل المنسجم والمتفق مع الآخرين وإمكانياتهم ، وهكذا تصبح الحياة مليئة بالإشراقات الإنسانية المتنوعة والمشرِّفة للحياة بجميع منتجاتها وعلاقاتها المتبادلة وتحقيق التكامل الإنساني .
إن التربية في وحدتها هي إعطاء الإنسان البنية التكوينية الواحدة من الناحية العلاقاتية ، وخلق الإنسان في صيغة كونية ، عندها يصبح الإنسان سيداً لذاته، وموجهاً هذه الذات فيما يعمق البناء التطوري للإنسانية . ويكسبها تنوعاً كبيراً في مضامين الحياة الإيجابية القائمة، ويغدو الإنسان وكأنه مع الجميع أساس قائم على الوحدة وتحقيق جميع فرص التآخي العالمي.
وتنهزم المفاهيم السلبية إلى الأبد باعتبارها إحدى المنتجات الهائلة الناتجة عن تطور المجتمع ألتناحري وتصبح نهاية الفكر القائم على الصراع بداية خلق الوحدة الفكرية للحياة، ويصبح السلب والإيجاب في متحف التاريخ ، ويصبح الفكر واحداً في شكله ومضمونه لا يخضع لأي قيمة تنتمي إلى الفوقية أو الدونية ، وتسقط جميع عمليات التقسيم القائمة على خلق فجوات فكرية وإقامة الفتن بتعميق الناقض بين الإنسان وإنتاجه ، وبين الإنسان وعلاقته مع غيره، وتصبح الحياة في وحدتها أكثر سعةً وعطاء ، وأكثر قدرة على تجديد نفسها وكشف أخطائها ، دون أن يرافق ذلك أي عملية تعصبية، حيث يصبح الذهن البشري أكثر مقدرة على التلاؤم والتكيف وفق الظروف الجديدة الناشئة ، لأنها معبرة وبشكل تام عن غاية الإنسان بالذات، ومدى احترامه لوجوده مع الآخرين، وإعطاء الوجود أبعاده الحقيقية ، عندها تصبح التربية غير منفصلة عن الحياة ، وهي في جوهرها تعبير عن حياة الإنسان نفسه.

ليست هناك تعليقات: