الأحد، 26 أكتوبر 2008

الأخلاق نظام وجداني











الأخلاق هي الدلائل والمعايير والقيم الموضوعة لتحقيق معادلة توازن الفعل الإنساني وإعطائه الصيغة الفعلية المتفق عليها ضمن الوسط المعاش،وتحقيق نوع من النفوذ من خلال التقيد بهذه الأخلاق ، وصيانة مبادئها العامة بالإضافة إلى تحقيق التوازن بين عملية تعميقها وتوسيع مبادئها ، وبين تسخيرها لتحقيق بعض الغايات من خلال الامتثال لمسيرها ونسقها العام ،وإظهار بعض النوايا من خلال الخرق المتعمد للأخلاق وتحقيق وجود متميز من خلال ذلك.
فالأخلاق في غايتها هي الحفاظ على الوفاق الاجتماعي، وتأمين نمطية معيشية منسجمة مع الحياة الحضارية التي يعيشها المجتمع ويتابع صيرورته مع تغيير هذه المعايير الأخلاقية على الدوام، فالأخلاق مع أصوليتها في الواقع تتسع لتشمل جميع العمليات الإنسانية بأفعالها المختلفة ، وإكسابها الصيغة القانونية المقبولة من الجميع والقادرة على إعلان وجودها في الواقع بمزيد من الوضوح والثقة ، مع القدرة على تقبل هذا الفعل دون أي إشكال أو تشهير غير متوافق مع الفعل الأخلاقي. والغاية الأساسية من الأخلاق هي تأمين الوحدة الإنسجامية بين الناس فيما يخص جميع الأعمال والأفكار المعلنة ، وإكسابها قوة دعائية تفعل فعلها في عقول الناس وأعمالهم، وتكسبها الدقة والانتباه، لتجعل من الإنسان حريصاً على التطابق بين أفعاله وأفكاره، وبين الأخلاق الاجتماعية ومسيرتها الذاتية، وإكساب هذه الأخلاق الكثير من التنوع في تحقيق وجودها الخاص، والمتسم بميزات وأفاق واسعة تعطي الإنسان نوعيته الخاصة في الوسط الاجتماعي، وتجعل من الآخرين مجرد مقيِّمين لهذا الإنسان، وتشكيل مفهوم عام عن شخصيته، وقد يستمر هذا المفهوم الجامد عنه متحدياً جميع القفزات الحاصلة في الحياة المغيّرة لمعاييرها ومفاهيمها الأخلاقية بالذات.
فالأخلاقية المنسجمة مع الواقع والمقيدة بمبادئه ومعارفه وقواعده السلوكية تؤدي بالضرورة إلى الانسجام التام بين الفعل الأخلاقي الشخصي والفعل الأخلاقي الاجتماعي، لتأمين التوافق الدائم عبر حركة المجتمع التطورية، بحيث تؤدي إلى ضبط الأفعال الإنسانية وانسجامها مع الواقع الحياتي للمجتمع، هنا تبرز الأخلاق كأنها الناظم والقادر على توحيد الأفعال الظاهرية في معايير متشابهة ، وقد تتعدى ذلك لتدخل دائرة المعرفة وتعطي نمطية فكرية ثابته ومتقاربة إلى حدٍ كبير مع المفاهيم العامة للمجتمع، وتصبح المحاسبة هي النمطية الغالبة في محاصرة الأفعال الأخلاقية الشاذة ، وتتخذ هذه المحاسبة أشكالاً متعددة ومتنوعة ، سواءً على المستوى الشخصي باتخاذ شتى أنواع العقاب الفردي المؤدي إلى التقليل من متابعة الفعل الشاذ ومحاصرته، أو بالمقاطعة السلوكية غير المعلنة والمعبر عنها بالموقف الاجتماعي الموحد في مهاجمة الشاذين وملاحقتهم ومقاطعتهم بشكل غير معلن، فينعزل المخالف ويرى نفسه في وسط غير مرغوب فيه، وغير ميّال لمعاشرته ومعاملته ، فيتجه نحوى الفئات التي تشاطره سلوكه وأفعاله الأخلاقية ، فيتأزم الوضع ويتخذ شكل عصابات منحرفة في غاية الخطورة على أمن الآخرين وسلامتهم.
والأخلاق بتبايناتها العامة بين الفئات الاجتماعية المتفاوتة في الحياة الاقتصادية ولاجتماعية والفكرية، تلعب دوراً هاماً في تنظيم العلاقات بين هذه الفئات، وتعطيها أبعاداً متباينة في طرائق الحياة العامة فتصبح الأخلاق في معاييرها، وكأنها تتسم بالنمطية المتماثلة من حيث استخدام وسائل الحياة الإنتاجية والترفيهية، مما يؤدي إلى تنوعية العلاقات الأخلاقية وتبايناتها النوعية في المجتمع ، وعلى الغالب فإن الأساس القوي في توحيد هذه المفاهيم والمعايير الأخلاقية هو الدين، لأنه موجه للجميع وبشكل فوقي ، ويمتلك قوة الإقناع والحجة والضغط النفسي والاجتماعي، وجميع مبادئ الالتزام والإلزام الأخلاقي لجميع البشر دون تمييز.
غير أن المحافظة على المكتسبات وصيانتها يجعل أمر التعامل الأخلاقي واقعاً ماكراً في أساليبه باعتباره يمتلك وسائل الردع الأخلاقي في بنيته العامة، وذلك من خلال نشر المفاهيم والأساليب المعيقة والمعرقلة لأي فعل قد يؤدي إلى إحداث تغيرات في المسيرة الأخلاقية العامة، وإذا ما ظهرت هذه المفاهيم الجديدة كثيراً ما يصعب التعامل معها واعتناقها لعدم توفر الاستعداد الاجتماعي التام لتقبل الأخلاق الجديدة والتعامل معها.
أما تربية الإنسان الجديد في عضويته والمُعَد للدخول في الواقع الأخلاقي للمجتمع ، فإن التربية تلعب الدور الأكبر في تلقين الإنسان المعاني الأخلاقية مرتبة وفق الحاجة إليها وفي الأوقات المحددة ، وغاباً ما تكون دروساً في غاية القسوة والضغط على الإرادة لإدخال المفاهيم الأخلاقية في نفسية الإنسان وإعطائها إمكانية الثبات والديمومة ، وإن الإخلال في هذه التربية يؤدي إلى ظهور أفعال مزعجة لواقع العلاقات وأسس التعامل بين الجيل الجديد والقديم وقد تتخذ أبعاداً عدائية.
فالنظرة التطورية للأخلاق في سياقها العام يعكس مجمل التطورات والأفكار الناشئة عن الأعمال الأخلاقية عبر الزمن وإن مجرد محاكمة موضوعية عن نشوء الأفعال الأخلاقية تقودنا إلى أسبقية الفعل الإنساني على الحياة الأخلاقية وإن الصيغ الأخلاقية الناشئة ليست إلا التنظير الدقيق للأفعال الإنسانية ، فالحياة السلوكية للناس وعملية نموها وتشعبها بشكل لا يمكن حصرها من خلال التطور التاريخي للإنسان جعل من إمكانية صياغة هذه الأفعال في قوانين أخلاقية أمراً ضرورياً وفي غاية الأهمية ، وذلك لتحديد سلوكية متوازنة وموحدة للجميع ومن أجل الجميع، لا تُخل أو تخالف المصالح المشتركة للناس عبر الزمن ، فلولا نشوء الأفكار والقوانين الأخلاقية لتوسعت دائرة الأفعال الإنسانية ، واتخذت أبعاداً في غاية الخطورة، ومهددة للسلامة الإنسانية العامة ومن أجل المحافظة على النمو ألتناسقي المنسجم للتشكيلات الاجتماعية عبر التاريخ، كان لابد من صياغة القواعد الأخلاقية بمزيد من الشدة والاحترام لها ولالتزام بمبادئها ، للمحافظة على الحياة من خطر إفناء الناس بعضهم البعض، ولإبقاء المصير الإنساني منسجماً مع مبادئه وقيمه الأخلاقية ، كان لابد من الالتزام بهذه القيم وإعطائها الصفة الكمالية في واقع الحياة اليومية.
والأخلاق في وحدتها هي الصيغة الأساسية للإبقاء على الرابطة الاجتماعية ، وتوحيد إمكانياتها فيما يحقق النمو الأمثل لهذه الحياة ويعطيها أبعاداً تتفق مع الحاجات العامة للمجتمع ، وبالتالي فإن الأخلاق هي التعبير عن النمطية المُعاشة لجميع التشكيلات الاجتماعية عبر التاريخ، لأن مجموعة الأفعال الأخلاقية المتولدة عن حياة اجتماعية معينة ، تعبر وبشكل واضح عن المدى التطوري الذي وصل إليه المجتمع ، ومن خلال قراءة الأفكار والأعمال الأخلاقية لتاريخ الجماعات البشرية ، فإننا نحصل على جميع الملكات الإبداعية لهذه الجماعات وإنتاجها الحضاري على كافة المستويات.
وإن مجرد التغيير المستمر للحياة الاجتماعية لجميع الحضارات في التاريخ الإنساني، كان يمثل على الدوام التغيير المستمر للحياة الأخلاقية وكثيراً من الأشكال الأخلاقية المحترمة في عصر من العصور احتقرت وأبطل مفعولها الأخلاقي، وأصبح ينظر إليها كأنه أفعال مقرفة ومسيرة للإختقار، وتعتبر وصمة عار في تاريخ صياغة القوانين والأفكار الأخلاقية ، وهكذا تطورت الإنسانية على كومة من الأفعال الأخلاقية الرزيلة لأنها أعاقت نمو الإنسانية في سياقها العام. وما دامت الأخلاق هي القضية الاجتماعية الأكثر إلحاحاً في السياق العام لبنية وتنظيم العلاقات بين البشر ،فإن الشخصية تلعب دوراً متميزاً في كيفية التعامل مع الأخلاق العامة وفهمها وفرزها على شكل مجموعة من الأفعال والأفكار في الواقع الاجتماعي نفسه ، وتصبح الأخلاق في واقع الشخصية عملية تلاؤم وتكيف وإبداع وفق الخصوصية الذاتية للشخصية ، والمتعلقة في البنية النوعية للأخلاق بحيث تصبح الأخلاق وضعاً متميزاً ومميزاً لكل شخصية على انفراد بالرغم من تواجدها في واقع عام واحد وفي حقيقة الأمر فإن الشخصية في تعاملها مع الأخلاق العامة تمتلك القدرة والإمكانية في عملية تحديد النوعية الأخلاقية العامة وفقاً لهذه الأفعال، وفي المقابل تتضح الشخصية بفعلها الأخلاقي عندما تتطابق مع الأخلاق في ماهيتها وحقيقتها العامة . فالمنظومة العامة للأخلاق وتنوعها الكبير في جميع المجتمعات الإنسانية، هي صيغة إنشائية قائمة ذات أهداف محددة لتأمين العلاقات البنيوية في المجتمع وأسس التعامل الإنساني العام لتحقيق واقع منسجم من الناحية العامة، ومن هنا تأخذ القوانين الأخلاقية صفة الفوقية ذات القدرة الإلزامية لتحقيق نوع من الاستقرار الاجتماعي وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم البعض. فجميع القوى القائمة والناتجة عن التطور التاريخي العام سواء أكانت ملتزمة بقواعد أخلاقية مرسلة من عوالم فوقية والمتواجدة في كافة الديانات السماوية ، أو نتيجة القواعد والأسس الناتجة عن التطور الاجتماعي كتعبير حقوقي أو عرفي لتنظيم الصيغ التعاملية للناس وفق مصالح محددة ومتفق عليها ، فإنها بمجملها تعبير عن التطابق بين الفعل الاجتماعي في حركته والفكر الاجتماعي القائم والمعبر عن هذا الفعل بجميع صيغه ومظاهره الحضارية القائمة.
أما ألأخلاق المتكاملة في بنيتها واتساع حركتها ، فهي الإمكانية الدائمة والمستمرة لخلق واقع أفضل وأكثر قدرة على حل جميع العراقيل والمصاعب المهددة لأمن وسلامة الإنسانية. وتأمين النمو المنسجم للواقع الإنساني العام في ماهيته إنها الأخلاق القادرة على إلغاء جميع الفرق الحضارية ، وكافة أشكال الفوقية والسيادة القائمة على السيطرة والسلب المستمر لحقوق الآخرين ومصلحهم، وتقويض حقوقهم في النمو والعطاء الأخلاقي الحر والدائم، والأخلاق الحقيقية القادمة هي القادرة على استيعاب جميع الإبداعات العامة في السلوك الناشئ عن التنوعية اللامحدودة في العلاقات الإنسانية ومقدرة الأخلاق في أن تؤمن وضعاً إنسانياً صحيحاً وصحياً قادراً على التوفيق بين العمليات النفسية الداخلية وبين الأفعال القائمة في المجتمع وإزالة الفروق بينهما بشكل واضح وعلني.

حسين عجمية
Ansaroz56@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: