الأحد، 26 أكتوبر 2008

العلم طريق البناء






















أول حقيقة يمكن أن ندركها عن العلم، بأنه العمل الدؤوب لإحداث المتغيرات الدائمة في الحياة، والقوة الكشفية لجميع القوانين والعلاقات الكائنة في الكون وإعطاء الحياة الاستخدام الأمثل للإنتاج الناتج عن هذا الكشف العلمي ومدى فاعلية هذا الإنتاج في تغيير الحياة الإنسانية وفق غايات يحددها الوجود الإنساني نفسه.
ويعتبر العلم السمة والقيمة المؤثرة في النفس الإنسانية ، وإعطائها المقدرة العامة لمواجهة جميع المؤثرات الخاطئة في الحياة ، ومواجهة جميع المفاهيم المحاكة بشكل لا يرضي تطور البناء الإنساني الحقيقي ، إنه القوة التي تمنح الإنسان الثقة في جميع الأعمال التي يقوم بها وفق المنهاج المتبع ، ويعطي الأمان التام في تقدير قيمة الواقع الإنساني العام ، وهو الأسلوب الكفيل بتوصيل الإنسان نحو غاياته التطورية ، وفهم الغاية الأساسية لاتجاه الحياة العلمية . فغاية العلم في وجوده القائم عبر الزمن تحقيق الإمكانيات الدائمة للانتصار على جميع المعوقات التي تقف في طريق تطور الحياة ، والبحث الدائم عن جميع الإشكالات والعوائق في الواقع ، وإحداث التغيرات الهائلة في البنية العامة للوجود للإنساني نفسه ، إنه القيمة المعبرة عن انتصار الإنسان على القوى الطبيعية ، واستغلال وجودها لصالح الحياة الإنسانية .
وغاية العلم في وجوده الذاتي توصيل الحياة إلى الاستقرار التام، وإلغاء كافة العوائق المعرقلة للوجود الإنساني في نمائه وتطوره المستقبلي ، وهو الصيغة عن التواجد الدائم للحياة واستمرارها، دون أن يؤدي ذلك إلى انتكاسات تعرقل المسيرة الإنسانية وتحد من نمائها أو تشوه القيمة الفعلية للوجود نفسه.
وبالعلم تصبح الحياة قوة قادرة واثقة ، ترتفع فوق جميع صيغ القهرية والجبرية ، وجميع المقولات الموضوعة لعرقلة النمو العلمي للوجود. ومن الناحية الثانية تبرز مقولة الغاية من استخدام العلم كعملية لا يمكن حصرها ولا ضبطها ، ولا نستطيع تنظيم مسيرها العام، لأنها ناتجة عن الأهواء الإنسانية بتنوعها الغريب وغير القابل للتحديد حصراً.
فالغاية من استخدام العلم كانت تمثل دوماً أبعاد مختلفة ومتناقضة في عطائها ومفرزاتها، فتارةً تستخدم من أجل الإنسان لتحقيق سيادته على الواقع ، ومعالجة قضاياه ولعوائق التي تقف في طريق نموّ ومصيره ، عندها تلعب الغاية العلمية دوراً إنمائياً متقدماً وتطوراً يساعد في تحسين وجود الحياة.
وأحياناً كانت الغاية العلمية تحقق إمكانيات فردية متميزة ، تبرز إلى الوجود من خلال تحقيق مكاسب شخصية ، نظراً للغايات المستخدمة في طرائق البحث والكشف العلمي على صعيد القضايا الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى عرقلة الحياة وحرفها عن المضمون الأساسي القائمة من أجله ، حيث طورت أشكال مفزعة من الإنتاج العلمي المهدد لتطور الحياة الإنسانية، لأن الغاية الأكثر خطورة هي الاستخدام التدميري للإنتاج العلمي من أجل تحقيق السيطرة والسيادة وسلب الحياة حق الوجود المستقر. وهذه الغاية في بنيتها العامة من الضعف الغريب في النفس الإنسانية وضحالة القدرة التوجيهية للغاية العلمية بالشكل المؤدي إلى تعميم الحياة المبدعة للإنسانية والاستفادة من هذه الحياة وعطائها العام للوجود البشري.
كما آن الانهزامية والإدارة السيئة للعلاقات الاجتماعية وتوجيه العقل الإنساني نحو العصيان هو ما أدى إلى انحراف الغاية من استخدام العلم كسلاح تدميري موجه ضد من نخاف عقابهم، نظراً للأخطاء الجسام التي نرتكبها بحقهم ، وإذا كان الإدعاء بأن الوسائل التدميرية هذه هي للحفاظ على التوازن وإقامة علاقات التكافؤ بين البشر ، فهذا مرده إلى ضعف الوعي المدرك لعملية الحياة الإنسانية بالذات فجميع العلاقات المتكافئة يمكن الحفاظ عليها بدون توازن ، لأنها تلبي طموح ورغبات الجميع وتحقيق حياة يسودها الإبداع والانسجام المتكافئ ، وإن العطاء الناتج عن هذه الحياة نفسها هو القدرة القادرة للحفاظ على الحياة الإنسانية بشكلها الحقيقي.
وإذا كان الهدف من ذلك هو تحقيق التوازن العام بين القوى المتصارعة ، فإن التوازن يمكن تحقيقه في غايات أكبر وأعمق وأفضل من غايات القتل والتدمير ولإبادة ، فالغاية العلمية هي مقدرة لامحدودة في توجيه عملية العطاء نحو الأفضل. وإذا كانت الغاية من ذلك إرهاب الشعوب واستنزاف خيراتها واحتكار الإنتاج الإنساني لتحقيق غايات ضيقة وضعيفة المردودية ، فإن الإنسانية في نموها ستمتلك القدرة الكافية لإيجاد السبل لمنع الاستنزاف ، واستنزاف خيرات الآخرين ، إلا في الطريق الذي يوفر لهذه الشعوب العزة والكرامة والاستمتاع الأعظم بأفضلية حقها في استخدام واستغلال هذه الخيرات لتحقيق نمائها وتطورها الذاتي والمتكافئ ، فالإنسانية بكافة مراتبها العلمية والتقنية ستتوجه بالاتجاه الأنسب لتحقيق نموها المطرد البعيد عن التوترات والصراعات المعرقلة لعملية النمو وتحديث الحياة فيما يحقق السعادة للجميع.
ستعلم الشعوب وتتعلم جميع الأساليب وجميع الوسائل والسبل القادرة على النهوض بالمستوى العلمي العام، لتحقيق النماء الإنساني المتكامل والهادف إلى التقريب الأمثل بين جميع أبناء الإنسانية ، لتحقيق قفزة نوعية في تآلف الحياة الإنسانية.
فالحضارة هي مقياس صحة العلم والحضارة القائمة على نمو القوى الاجتماعية الفاعلة في الحياة والقادرة على إحداث التطور المنسجم مع الواقع الإنساني هو ما يؤدي بالضرورة إلى ترشيد العلم وفق الأبعاد الحقيقية للمستقبل ويعطي الإنتاج العلمي وجوداً إنمائياً مستمراً وفق الغايات الإنسانية الحقيقة .
فإذا كان الهدف من استخدام العلم تشويه الحياة والأخلاق الإنسانية وفق خطة معدة لتأمين السيادة ، والقدرة على تعزيز تواجد القائمين على استخدام الإنتاج العلمي فإن النتيجة ستطالهم حتماً، وسيدخلون دائرة الانحراف ولانزلاق في مواقع ستؤدي بالضرورة إلى إنهائهم، وستبقى الحياة مستمرة تقاوم جميع الصيغ المؤدية إلى تشويه مسيرتها العامة.
وإذا قامت الحضارة على تأمين الوجود الدائم للحياة في أفضل معانيها، والمتجهة نحو التوفير الأمثل للحاجة ، فإن العلم سيلعب دوراً قيادياً ومعمقاً أبحاثه واكتشافاته ، لأن الأساليب المتبعة لتحقيق هذه الغاية نابعة من إقدام إنساني عالي الفاعلية نحو تحقيق غاية العلم ويصبح العلم أداة طموح قائم على تأمين السلامة والكرامة الإنسانية،وسيعمل الإنسان بكل إمكانيات التفاني لتحقيق قفزة علمية صحيحة وسريعة تؤدي إلى تغيير بنية الحضارة القائمة بشكل تام ، وستسقط جميع الأوهام البشرية القائلة بأن الإنسانية تسعى لتدمير نفسها .
فالسرعة التطورية للعلم يحددها النقل الأمين لمعطياته وهي من الدقة والتوازن القائم على الرعاية والمحافظة التامة للبنية للإنسانية بجميع أشالها وصورها في الحياة وجميع الشعوب الداخلة في التركيبة الإنسانية العامة .
وإن مجرد عدم التوازن في إقامة الحضارة الإنسانية سيخلق بالضرورة فرقاً حضارياً بين الشعوب له جانب كبير من الخطورة ، قد يؤدي في المستقبل إلى توسع دائرة الخلاف والتوتر بشكل يعيق تطور الحياة العامة ويعرض وجودها للخطر ، وإن تناسي هذه الظاهرة العالمية لن يحدث النقلة النوعية السليمة للحضارة الإنسانية، وستبقى بؤر التوتر قائمة ومهددة بالانفجار.
فالإنسان هو القائم والقادر على تحقيق النمو العلمي المطرد وتوسيع إمكانياته وتخصصاته ، وتعميق أكثرها فاعلية فيما يخص قضايا الإنسان ووجوده بالذات، والعلم هو الإمكانية الدائمة لتحقيق هذه القضايا وتعميق وجود الإنسان وإعطائه القوة والطاقة المستمرة من أجل حياته النوعية وفق الأصول والغايات المتواجدة من أجلها، والوصول إلى السيادة مع هذا الوجود معتمداً على الاستخدام الأمثل لمبتكرات العلم من أجل الإنسان بالذات، فتوجيه العلم وفق صيانة الحياة الإنسانية من جميع المخاطر والأخطار التي تهددها، سواءً أكانت داخلية ناجمة عن تأمين صحة الإنسان بشكل أفضل وأقوى وأقدر على متابعة الحياة وفق حيوية وحركة نشيطة فعّالة ومتألقة بعيدة عن الألم والأزمات العضوية والنفسية ، وتأمين الوسط الموضوعي لتأمين الصحة العامة للجميع.
كما أن الاستخدام الواعي لمنهجية العلم هي التي ستحقق التوازن بين نمو القدرات العلمية في الحياة والقدرات الإنسانية في الوسط الاجتماعي بشكل يجعل من الإنسان موضوع ألفة وائتلاف قائم على المحبة في جميع العلاقات الإنسانية.
فالعلمية الإنسانية ذات أبعاد مستقبلية مبنية على التأمين الأمثل للحاجات ، وتوزيعها وتطويرها وفق أسس خلقية مبنية على الاحترام والتفاهم والوفاق التام لجميع المفاهيم الإنسانية وتوحيدها فيما يخص الاستفادة الشاملة من منجزات العلم ليخدم ويعمق تطور المسيرة الإنسانية ويحافظ عليها.
حسين عجمية
Ansaroz56@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: